لما يوجد من تلازم بين فكرة الدولة ووجود نظام قانوني، لأنه من تعريف الدولة يظهر انها تفترض وجود ذلك النظام. فالدولة إذ توجد، يوجد معها قانون لا يمكنها الخلاص منه إلا بالقضاء على نفسها، وهي لا تمارس نشاطها إلا على مضمون ذلك القانون، فهو كالظل بالنسبة لها، يوجد بوجودها ويمحى بفنائها. كما ان القواعد التي يتضمنها ذلك القانون، لا قيمة لها إذا لم تكن ملزمة، والدولة لا يمكنها مخالفتها بغير القضاء عليها ومن ثمَّ التنكر لوحدها ذاتها. و قد صادفت هذه النظرية معارضة قوية في الفقه الفرنسي، ولم يعتنقها غير فالين وكاريه دي ملبر . غير ان بعض الفقهاء الفرنسيين مثل هوريو وبيردو لم يقولوا إلا بآراء مقاربة تماما لآراء الألمان ، وإن أنكروا كل صلة لهم بنظريات هؤلاء.
ثالثا: نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي:
لجم ديجي النظريات الالمانية من أساسها حتى قال عن نظرية التحديد الذاتي إنها سفسطة وهزل، وخرج لنا بنظرية جديدة تقوم على أساس إنكار كل من فكرة السيادة وفكرة الحق وفكرة الشخصية المعنوية.
ففي نظر ديجي أن إهرنج وجلنيك قد بدءا من نقطة بداية خاطئة، لانهما كانا يهدفان الى ايجاد اساس لمبدا خضوع الدولة للقانون لا يتنافى مع مبدأ سيادة الدولة. بيد ان العلامة الفرنسي ينكر فكرة السيادة، ويرى ان المشكلة تنحصر في تعريف القانون وتعيين مصدر له يكون في منأى عن سلطان الحكم. فهو يعتقد انه لا يمكن تبرير خضوع الدولة للقانون طالما حسبنا القانون من صنع الدولة، او انه بعبارة أخرى مجرد تعبير عن إدارة الحكام، لان الشرط الاساس لتقييد الدولة وخضوعها للقانون هو ان يكون للقانون مصدر مستقل وخارجي عن الدولة، وسابق على وجودها، بمعزل عن ارادة كل عضو من أعضائها. فصاحب القاعدة القانونية لا يمكن ان يقيدها لان القيد لا بد ان يكون مصدره خارجيا، أي نتيجة لقاعدة خارجية.
لذلك فقد قامت نظرية ديجي على اساس المصدر غير الاداري للقانون، أي عدم تدخل ارادة الحكام في عمل القانون. فالقاعدة تكتسب الصفة القانونية والالزامية لا بسبب إصدارها بواسطة سلطة عامة ، ولكن بسبب اتفاقها مع مستلزمات التضامن الاجتماعي والعدالة . ومن ثم تكون لها الصفة القانونية لذاتها وبذاتها، إذ ان توافقها مع مقتضيات التضامن الاجتماعي صفة ذاتية لا دخل لإرادة الحكام في وجودها. وبذلك يظهر الانفصال بين القانون في مصدره وبين الدولة، الأمر الذي من شأنه ان يقيد الدولة بالقانون، لأن القاعدة القانونية تنشأ بمجرد ما يستقر في ضمير الجماعة ضرورة وجودها دون تدخل من الدولة.
نقد النظرية:
وعلى الرغم مما نكنه لآراء ديجي من إجلال وتقدير ، فاننا نرى انه قد جانب التوفيق في هذا الباب، وانه اشتط في هجومه على الفقيه الالماني حتى ضل السبيل. فقد انكر الفقيه الكبير على الدولة حتى مجرد سلطة الصفة الوضعية للقاعدة القانونية، وادعى بان القاعدة تكتسب هذه الصفة بمجرد اعتناق الآفراد لها ورسوخها في ضمائرهم. ولكن، أليس القانون الوضعي هو القانون المطبق فعلا؟ ومادام الأمر كذلك، فكيف يمكن القول ان القاعدة قد اكتسبت الصفة الوضعية باعتناق الافراد لها من دون ان يتحدد مضمونها تحديدا دقيقا؟ فلا شك ان مجموع الافراد عاجز على ان يقوم مثل هذا التحديد، وكل ما يستطيع عمله هو ان يتطلع الى تعديل تشريعي في موضوع معين من دون ان يمكنه تحديد مضمونه تحديدا كافيا. ولذلك فلا يتصور اكتساب الصفة الوضعية لقاعدة ما قبل ان تدخل سلطة مختصة.
ثم كيف يمكن خلع الصفة القانونية الالزامية على القاعدة من دون ان يكون لها جزاء منظم لحمايتها؟ وكما يقول هوريو: " لاحكم للقانون في أي مكان بغير سلطة تحميه".
الحقيقة أن آراء ديجو في القاعدة القانونية وعدم ضرورة الجزاء لاعتبارها كذلك، لايمكن التسليم بها. والاساس الذي قال به في خضوع الدولة للقانون ليس اساسا قانونيا ولا يعدو ان يكون قيدا أخلاقيا. ولا نريد الدخول في تفصيل هذه النظرية او غيرها من النظريات، فانما قصدنا فقط ان نلم الماما سريعا باهم الاراء التي قيلت في اساس خضوع الدولة للقانون وهناك نظريات اخرى قيل بها في هذا الشأن نكتفي بالاحالة اليها( مثل نظرية القانون الطبيعي لميشو ولفير).
وخلاصة القول ان الراي السائد اليوم يدعو الى اخضاع الدولة للقانون وان الخلاف ينحصر في تحديد الاساس الذي بقوم عليه ذلك المبدأ، فمن قائل بان القيود التي ترد على نشاط الدولة انما تنبع من ذات وجودها وانه لا يوجد انفصال بين السلطة والقانون اذ هما يمثلان وجهين لقطعة معدنية واحدة ومن ثم فليس للقانون سبق على الدولة (يمكن ان نضع في هذا الاتجاه مع نظرية التحديد الذاتي، الاراء التي قال بها كل من هيرو وبيردو). بينما يرى اخرون ان القانون سابق على الدولة ويسمو عليها ( نظرية الحقوق الفردية، نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي ونظرية القانون الطبيعي) .
ونحن وان كنا لا نريد ان نتخذ الان موقفا من هذه الاراء المختلفة حول القانون والدولة، لما يقتضي ذلك من دخول في تفاصيل قد تباعد بيننا وبين موضوع البحث، فاننا مع ذلك نستطيع ان نعلن ميلنا الى الاخذ بالنظرية الالمانية، لما فيها من تلمس لحقيقة الواقع، وبعد عن التصور والخيال. اما النظريات التي تقيم فاصلا قاطعا بين القانون والدولة فهي نظريات تنكر القانون الوضعي وتقوم على اساس تصوري خاطئ، اذ انه لا يصح الفصل بين القانون والدولة لوجودهما في حالة اعتماد وتساند متبادلين، ولان السلطة في الدولة تقوم على اساس من القانون، كما ان القواعد الوضعية تجد مصدرها في السلطة التي تنظم الجزاء اللازم لحمايتها.
المبحث الثاني
تعريف الدولة القانونية وعناصرها
ومهما يكن الاساس الذي يقوم عليه مبدأ خضوع الدولة للقانون فلا شك في كونه مبدأ من المبادئ الاساسي للدول الحرة. غير ان عناصرها لا يمكن حصرها في قائمة موحدة وثابتة، لان الدولة القانونية في الواقع ليست الا نظاما مثاليا لم يتحقق بصورة مكتملة العناصر في القانون الوضعي، كما ان مضمون المبدأ وعناصره تخضع لسنة التطور مع تطور الفكر الانساني كما تختلف من فقيه الى اخر.
و نظرية الدولة القانونية قد اخذت صورتها العلمية على يد الكتاب الالمان وعلى الاخص مول وستال وجينيست. ويعرفها ستال بانها تلك التي تعين عن طريق القانون وسائلَ مباشرةِ نشاطِها وحدود ذلك النشاط؛ كما تحدد مجالات النشاط الفردي الحر. بينما يعرفها جيركه بانها الدولة التي تخضع نفسها للقانون وليست تلك التي تضع نفسها فوق القانون.
على انه يجب ان لايغرب عن البال ان التعبير قد استعمل في معان مختلفة في كتب الفقه. فمن الفقهاء من قصد به مجرد خضوع الادارة للقانون بالمعنى الضيق أي خضوع الادارة للعمل الصادر من السلطة التشريعية، وهو ما نسميه نحن "مبدأ سيادة القانون" والذي لا يعدو في نظرنا ان يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية.
وقد عدَّ هوريو خضوع الدولة للقضاء صورة من صور الدولة القانونية، ومرحلة من مراحل تطورها، ونحن نرى ان خضوع الدولة للقضاء او امكان مقاضاتها امام القضاء ورضوخها لاحكامه شأنها شأن الافراد، يكون عنصرا اخر من عناصر الدولة القانونية بغيره يغدو مبدأ خضوع الدولة للقانون وهميا او نظريا . لذلك نرى من اللازم ان نعرف من الان ماهية الدولة القانونية او مبدأ خضوع الدولة للقانون، وان نميزه عن غيره من المبادئ التي تختلط به في الاذهان.
اولا: تعريف الدولة القانونية:
القول بنظام الدولة القانونية معناه خضوع الدولة للقانون في جميع مظاهر نشاطها، سواء من حيث الادارة او القضاء او التشريع، وذلك بعكس الدولة البوليسية حيث تكون السلطة الادارية مطلقة الحرية في ان تتخذ قبل الافراد ما تراه من الاجراءات محققا للغاية التي تسعى اليها على وفق الظروف والملابسات (وهذا النظام الذي عرفته الملكيات المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبعض كبرى الامبراطوريات في القرن التاسع عشر.
على ان الانتقال من نظام الدولة البوليسية الى نظام الدولة القانونية لا يتم الا على مراحل، لاننا نجد كثيرا من البلدان حتى اليوم تمثل خليطا من عناصر الدولة القانونية وعناصر الدولة البوليسية، لان كثيرا من تلك الدول لم تخضع للقانون الا في بعض مظاهر نشاطها دون بعضها الاخر. ومع ذلك يمكن ان نعد الثورة الفرنسية وما تابعها من اعلان الحقوق، الحدث الذي حقق الانتقال من نظام الدولة البوليسية الى نظام الدولة القانونية، لان الثورة قد هدفت الى هدم كل ما يتعلق بالماضي وما خلفه من انظمة استبدادية، واقامت نظاما جديدا على اسس جديدة.
وعلى الرغم مما خلفته الثورة الفرنسية من اثار في مختلف الدول الاوربية، فان غالبية هذه الدول قد عاشت في ظل النظام البوليسي طوال القرن التاسع عشر، ولم تأخذ بنظام الدول القانونية الا تدريجا وحديثا.
ويجب التمييز بين الدولة البوليسية والدولة الاستبدادية ففي الاخيرة نجد تعسف الادارة بالافراد حسب هوى الحاكم او الامير ويُستبَدّ بأمورهم. اما في الدولة البوليسية فليس للافراد حقوق قبل الدولة وللادارة سلطة تقديرية مطلقة في اتخاذ الاجراءات التي تحقق الصالح العام للجماعة، وذلك على اساس ان الغاية تبرر الوسيلة أي انه بينما يستهدف السلطة في الدولة البوليسية مصلحة المجموع، نجد الحاكم المستبد لا يبغي الا مصلحته الشخصية. ومن ثم يكون الحاكم في الدولة الاستبدادية مطلق التصرف وغير مقيد بأي قيد، لا من حيث الوسيلة ولا من حيث الغاية، أي انه يعمل كل ما يحلو له ولو كان فيه إساءة الى الجماعة التي يتولى أمرها.
اما في الدولة البوليسية فالحاكم وان كان غير مقيد من حيث الوسيلة، فهو مقيد من حيث الغاية، لان حريته في اتخاذ ما يراه من الاجراءات مشروطة بان تكون غايته في هذه الاجراءات مصلحة الجماعة وليس مصلحته الشخصية.
ولعل اهم مايميز الدولة القانونية هو ان السلطات الادارية لا يمكنها ان تلزم الافراد بشئ خارج القوانين المعمول بها، وذلك يعني تقييد الادارة: فمن ناحية لا تستطيع الادارة حينما تدخل في معاملات مع الافراد ان تخالف القانون او تخرج عليه ومن ناحية اخرى لا تستطيع الادارة ان تفرض عليهم شيئا الا اعمالا لنص القانون او بموجب قانون. فعلى رجل الدولة اذن قبل ان يتخذ أي إجراء ضد احد الافراد، ان يبين له القانون الذي استمد منه سلطة اتخاذ ذلك الاجراء، وبعبارة أخرى ليس على الادارة فقط أن تمتنع عن مخالفة القانون ، بل يجب عليها فوق ذلك ان لا تتصرف الا بموجب نص القانون.
على ان ذلك لا يكون الا عنصرا من عناصر الدولة القانونية، اذ انه للوصول الى نظام الدولة القانونية الكامل لا يكفي إخضاع الادارة للقانون، بل يلزم اخضاع جميع السلطات العامة الاخرى كذلك وعلى الاخص السلطة التشريعية، أي سلطة عمل القوانين.
ثانيا: التمييز بين مبدأ خضوع الدولة للقانون او نظام الدولة القانونية وبين مبدأ سيادة القانون:
1ـ مبدأ خضوع الدولة للقانون كما سبق القول يعني خضوع جميع السلطات في الدولة للقانون، وهو مبدأ قانوني قصد به صالح الافراد وحماية حقوقهم ضد تحكم السلطة. أما مبدأ سيادة القانون فينبع من فكرة سياسية تتعلق بتنظيم السلطات العامة في الدولة وتهدف الى وضع الجهاز التنفيذي في مركز ادنى بالنسبة للجهاز التشريعي ومنع الاول من التصرف الا تنفيذا لقانون او بتخويل من الشعب صاحب السيادة.
وحيث ان كل تنظيم في الدولة وكل نشاط لها يجب ان يصدر عن ارادة الشعب، فانه ينبغي خضوع السلطة التنفيذية للبرلمان وكل عمل للسلطة التنفيذية لا يمكن الا ان يكون تنفيذا للقانون المعبر عن الارادة العليا. وهذا الخضوع أي خضوع الجهاز التنفيذي للجهاز التشريعي، لا يقتصر على ما يتعلق باعمال الادارة التي تنتج اثارا خاصة تجاه الافراد ، بل يمتد الى جميع الاجراءات الادارية بما فيها تلك التي تخص التنظيم الداخلي للمرافق الادارية والتي لا تتعدى اثارها نطاق الجهاز الحكومي.
2ـ مبدأ خضوع الدولة للقانون وان كان اضيق نطاقا من مبدأ سيادة القانون من حيث ان الاول يقتصر تطبيقه على الاجراءات التي تمس مصالح الافراد بينما الثاني شامل لجميع اعمال الادارة كما سبق البيان، فان مبدأ خضوع الدولة للقانون اوسع نطاقا من نواحي اخرى.
فمبدأ سيادة القانون يهدف الى جعل الجهاز التشريعي ـ بوصفه جهازا منتخبا من الامةـ الجهاز الاعلى في الدولة، وان يجعل ارادته الارادة الاعلى فيها. ومن ثم فهو لا ينطبق الا على السلطة التنفيذية، في حين ان نظام الدولة القانونية يقتضي إخضاع جميع السلطات العامة للقانون أي ان هذا المبدأ الاخير لا يقيد السلطات الادارية فقط، بل يقيد السلطة التشريعية ايضا. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان مبدأ سيادة القانون يعني خضوع الادارة للقوانين الاشكالية فقط. بيد ان نظام الدولة القانونية يعني تقييد الادارة ليس فقط بالقوانين، بل أيضا باللوائح الادارية، وذلك لانه على وفق مبدأ خضوع الدولة للقانون لا يجوز للادارة ان تلزم الافراد إلا في حدود القوانين و اللوائح المعمول بها، ومن ثم فهي تخضع للوائح الادارية كما تخضع للقوانين طالما ان تلك اللوائح تبقى معمولا بها..
3ـ مبدأ سيادة القانون خاص بالنظم الديمقراطية حيث يتكون الجهاز التشريعي الذي يعمل القوانين من نواب عن الامة يمثلون إرادتها العليا. اما مبدأ خضوع الدولة للقانون فهو يصلح النظم المختلفة للحكم، ديمقراطية او ديكتاتورية، ولذلك فنحن نرى مع الأستاذ بونار ان الفقه الاشتراكي القومي الالماني (النازي) لا يتعارض مع مبدأ خضوع الدولة للقانون وان لم يأخذ بمبدأ القانون بمعنى سيادة البرلمان. وعلى الرغم من كل هذه الفروق، فان الخلط قائم في كثير من الاذهان بين خضوع الدولة للقانون ومبدأ سيادة القانون،
ونجد كثيرا من كتب الفقه، المصري والفرنسي على السواء، تستعمل التعبيرين على انهما مترادفان ولعل مصدر الخلط راجع الى حسبان النظام الفرنسي، وهو الذي يأخذ بمبدأ سيادة القانون الناتجة عن سيادة البرلمان، النظام المثالي للدولة القانونية. وهو نظر غير سليم في رأينا، لان المشرع الفرنسي في الواقع لا يعرف قيودا حقيقية على حريته، اذ تنعدم الرقابة على دستورية القوانين، ولا يكون نظام الدولة القانونية متحققا بصورة كاملة ما لم تتقرر الضمانات التي تكفل احترام الدستور وتضمن عدم مخالفة المشرّع لنصوصه.
ثالثا: عناصر الدولة القانونية ووسائل تحقيقها:
للقول بخضوع الدولة كلية للقانون، او لتحقيق نظام الدولة القانونية الكامل ينبغي توافر عناصر مختلفة وتقرير ضمانات معينة نجملها فيما يلي:
1ـ وجود دستور:
وجود دستور يعني اقامة نظام في الدولة ووضع قواعد لممارسة السلطة فيها ووسائل وشروط استعمالها ومن ثم يمتنع كل استخدام للسلطة العامة لا تراعى فيه الشروط او تلك القواعد. وبعبارة اخرى، اذا كان دستور الدولة يبين اختصاصات كل عضو من اعضائها، فهو في الوقت نفسه يحرم عليه جميع السلطات التي تخرج عن ذلك البيان.
من ذلك يتضح ان وجود الدستور يعد الضمانة الاولى لخضوع الدولة للقانون، لان الدستور يقيم السلطة في الدولة. ويؤسس وجودها القانوني كما يحيط نشاطها بإطار قانوني لا تستطيع الحياد عنه. وليس ذلك راجعا الى ان الدستور يقيم حكما ديمقراطيا اذ انه لا ارتباط بين وجود الدستور وقيام الحكم الديمقراطي. كما انه ليس ثمة تلازم بين خضوع الدولة للقانون واعمالها للمبدأ الديمقراطي. ولكن وجود الدستور يؤدي الى تقييد سلطات الدولة، اذ سينظم السلطة فيها ووسائل ممارستها كما يعين حقوق الحاكم ويحددها. والدستور بطبيعته أسمى من الحاكم لانه يحدد طريقة اختياره و يعطيه الصفة الشرعية، كما يبين سلطاته وحدود اختصاصه ومن ثم فان السلطة التي مصدرها الدستور لابد ان تكون مقيدة، لا لانها يجب ان تمارس على وفق الأوضاع الديقراطية، ولكن لوجوب احترامها لوضعها الدستوري و الا فقدت صفتها القانونية. فاذا ما نص الدستور على ان امورا معينة لا يمكن تنظيمها الا بقوانين تصدر من السلطة التشريعية في الدولة فان ذلك يستتبع حتما تقييد سلطان الدولة في هذا الشأن لانها لن تستطيع تنظيم هذه الامور عن طريق السلطة التنفيذية. كما ان الدستور اذا ما فصل بين سلطة سن القوانين وسلطة عمل الدستور، أي انه اذا ما أخذ بفكرة الدستور الجامد وفرق بين القوانين العادية والقوانين الدستورية، كان ذلك اكثر تقييدا لسلطات الدولة بقدر جمود الدستور وبقدر ما توضع من قيود على تعديله.
ووجود الدستور يعني تقييد السلطات المنشأة في الدولة، أي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، لان الدستور هو الذي انشأها ونظمها وبيَّنَ اختصاصاتها، ولانها تابعة للسلطة التأسيسية.
2ـ الفصل بين السلطات:
واذا كان الدستور يعين السلطات ويحدد اختصاص كل منها، فانه ينبغي ضمان احترام هذه القواعد وعدم خروج السلطة عن حدود اختصاصها. ولعل الضمانة الاولية لذلك تنحصر في الفصل بين السلطات فصلا عضويا او شكليا، بمعنى تخصيص عضو مستقل لكل وظيفة من وظائف الدولة، فيكون هنالك الجهاز الخاص بالتشريع والجهاز الخاص بالتنفيذ والجهاز الثالث للقضاء ومتى تحقق ذلك فان كل عضو سيكون له اختصاص محدد لا يمكنه الخروج عليه من دون الاعتداء على اختصاص الاعضاء الاخرين. ولاشك ان الفصل بين السلطات يمنع ذلك الاعتداء لان كلا منها سيوقف اعتداء الاخر.
اما اذا تجمعت السلطات في يد واحدة، فانه حتى لو قيدناها بقواعد معينة في الدستور فلن تكون هناك أي ضمانة لاحترام هذه القواعد، ولن يقف في سبيل الحاكم شئ اذا استبد بالسلطة. فمثلا اذا اجتمعت وظيفة التشريع ووظيفة التنفيذ في يد واحدة، فان التشريع قد يفقد ضمانته الاساسية، الا وهي وضعه قواعد عامة مجردة لتطبق على الحالات المستقبلية. وقد يحدث ان تصدر القوانين لتسري على حالات خاصة، او ان يعدل القانون وقت التنفيذ على الحالات الفردية لاغراض شخصية. ويصدق نفي الشئ على حالات اجتماع وظيفتي التشريع والقضاء في يد واحدة، اذ يستطيع المشرع ان يسن قوانين مغرضة تتفق مع الحل الذي يريد تطبيقه على الحالات الفردية التي تعرض امامه للقضاء فيها، فيحابي من يشاء ويسعف بمن يريد.
3ـ خضوع الادارة للقانون:
خضوع الادارة للقانون او مبدأ سيادة القانون يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية كما سبق البيان، فلا يجوز للادارة ان تتخذ اجراءَ َ، قرارا اداريا او عملا ماديا، الا بمقتضى القانون وتنفيذا للقانون. ومرد ذلك يعود الى امرين: الاول هو انه حتى يتحقق مبدأ خضوع الدولة للقانون يلزم ان تكون الاجراءات الفردية التي تتخذها السلطات العامة فيها منفذة لقواعد عامة مجردة وموضوعة سلفا، وبذلك تسود العدالة والمساواة. والامر الثاني هو ان القانون في الدولة الديمقراطية يصدر عن هيأة منتخبة تمثل الشعب وتمارس السيادة باسمه، وخضوع الادارة للقانون يحقق لتلك الهيأة المنتخبة الهيمنة على تصرفات الادارة. على انه يجب ان لا يفهم من ذلك ضرورة خضوع الجهاز الاداري بوصفه هيأة للجهاز التشريعي، وانما يكفي ان تكون الوظيفة الادارية او التنفيذية تابعة للوظيفة التشريعية. فالخضوع في الواقع هو خضوع وظيفي وليس حتما خضوعا عضويا، ولذلك فنحن نرى ان الجهة الادارية ليست ملزمة بما قد تتلقاه من اوامر من المشرع بشأن تنفيذ القوانين على وجه معين في حالات فردية.