حين أعلن الرئيس محمد حسني مبارك عن مبادرته بتعديل المادة 67 من الدستور المصري الصادر في سبتمبر سنة 1971، والمعدل في شهر مايو سنة 1980، وذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر فبراير سنة 2005، رحب الكثيرون بتلك المبادرة واعتبروها خطوة كبيرة الى الأمام في طريق الديمقراطية.
ولكنني شخصيا وفور إعلان هذه المبادرة، وعند اتصال العديد من الصحفيين بي، أعلنت عن اعتراضي على تلك المبادرة، وبينت أسباب ومبررات الاعتراض بكل وضوح، وقامت العديد من الصحف بنشر رأيي في اليوم التالي مباشرة.
وبعد أكثر من شهر كامل، بدأ البعض يعبر عن مخاوف مما سوف تنتهي اليه تلك المبادرة على أيدي من يسمونهم ترزية القوانين، ثم صدر التعديل في شهر مايو سنة 2005 فيما يقارب سبعمائة كلمة، وبما يتجاوز ضعفي المساحة المخصصة لبعض أبواب الدستور، ومتضمنة شروطا تعجيزية يستحيل توافرها إلا لمرشح واحد، هو مرشح الحكومة أو الحزب الحاكم، ومنطوية على تنظيمات وأحكام تتعارض مع المبادئ القانونية العامة، وتتنافى مع أبسط المبادئ الدستورية، وتجافي قواعد المنطق والعقل.
ولذلك، لم يكن غريبا أن تتعالى الصيحات المنددة بأحكام هذه المادة، وأن تتعدد الانتقادات الموجهة إليها من كافة الاتجاهات السياسية، ومن جميع طوائف المجتمع شاملة بعض أعضاء وعناصر الحزب الوطني الحاكم.
وبعد أن تصاعدت الهجمات على مدى سنة ونصف سنة، وبعد أن عم السخط أرجاء البلاد، وفي اليوم الثلاثين من شهر أكتوبر الماضي، صرح الرئيس محمد حسني مبارك بأنه لا يمانع من شمول التعديلات الدستورية التي سبق له طرحها، تعديل المادة 67 من الدستور.
وقد قوبلت هذه المبادرة الجديدة بالتهليل من ذات الأشخاص الذين قاموا بدور اللاعبين الرئيسيين في صياغة تعديلات تلك المادة والدفاع عنها باستماتة وتشنج.
ولكن، في هذه المرة، قوبلت المبادرة الجديدة من البعض بالفتور، ومن البعض بعدم الرضا أو باليأس من إجراء تعديل حقيقي يؤدي الى اختيار حر ديمقراطي، أو يسمح بتقدم مرشحين أقوياء، ممن لهم وزن في المجتمع، ولم يلوثهم العمل الحزبي، وسرعان ما كشف النقاب عن أن التعديل سوف يكون مقصورا على إتاحة الفرصة لبعض الأحزاب ـ التي لا وزن لها ولا تتمتع بأي تأييد أو تواجد شعبي ـ بالترشيح لانتخابات الرئاسة. وإن عدم اقتناعي بكل من المبادرة الأولى يرجع الى إيماني بعدم جدوى التعديل الجزئي للدستور، وأن التعديل يجب أن يكون شاملا لجميع مواد الدستور.
ذلك أن الدستور الصالح يجب أن يقوم على مجموعة من القواعد والمبادئ والأحكام والأجهزة المتناسقة والمنسجمة والمترابطة فيما بينها، تبين نظام الحكم وأجهزته المختلفة واختصاصات كل منها، ووسائلها فى ممارسة السلطة، كما تحدد حقوق الأفراد وحرياتهم وضمانات ممارسة تلك الحريات، وتنظم علاقات السلطات ببعضها البعض، وعلاقاتها بالأفراد المحكومين.
ومن ثم، فإنه لا يجوز إجراء تعديل المادة الخاصة بتحديد طريقة اختيار رئيس الجمهورية، من دون النظر في مواد الدستور الأخرى المرتبطة بها والتي تتأثر كل منها بالطريقة التي يتم بها اختيار رئيس الجمهورية، ومن المواد وثيقة الارتباط بالمادة الخاصة بطريقة اختيار رئيس الجمهورية، جميع المواد المتعلقة باختصاصات وسلطات رئيس الجمهورية، والمادة الخاصة بمدة أو مدد رئيس الجمهورية، والمادة التي تحدد الشروط المطلوبة فيمن يتولى رئاسة الجمهورية، وجميع المواد المتصلة بعلاقة رئيس الجمهورية بغيره من سلطات الدولة المختلفة، والمواد المتعلقة ببيان نظام الحكم في الدولة.. وهكذا.
هذه المواد جميعها ترتبط ببعضها البعض ارتباطا وثيقا، وهذا الارتباط يستلزم تناسقها وتآلفها وانسجامها مع بعضها، مما يجعلها منظومة مترابطة ومتآلفة ومتعاونة.
وإن طريقة اختيار رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي تختلف عن طريقة اختيار رئيس الجمهورية في النظام البرلماني، واختصاصات رئيس الجمهورية في النظام البرلماني محدودة جدا، الى درجة اعتبارها مجرد اختصاصات رمزية أو شرفية، بينما تكون اختصاصات رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي واسعة، بحيث تشمل كامل السلطة التنفيذية.. إلخ.
ولذلك كان رأيي دائما وسيبقى كذلك في اتجاه المطالبة بالتعديل الكامل للدستور. هذا فضلا عن أن الدستور المصري القائم مليء بالتشوهات والتناقضات، وتشويه العديد من العيوب التي أحالته الى نظام شمولي يركز السلطات في يد رئيس الجمهورية.
ما تقدم خاص بما أراه من ضرورة التعديل الكامل للدستور، ولكن إذا كان الأمر مقصورا على تعديل المادة 67 الخاصة بطريقة اختيار رئيس الجمهورية، فإنني في هذه الحالة أجد نفسي مضطرا الى المطالبة بأن يتضمن التعديل النص على إطلاق جميع الحريات السياسية، وفي مقدمتها حرية تكوين الأحزاب السياسية إلى جانب حرية الانتخاب وحرية الترشيح، بمعنى عدم وضع آية قيود على حق الترشيح لرئاسة الجمهورية أو أية قيود على حق تكوين الأحزاب السياسية، ويعني تقرير حرية ممارسة النشاط الحزبي من دون وصاية أو تصريح أو تدخل من جانب السلطة إلادارية. ولا سبيل إلى انتخابات حقيقية من دون تمتع الجميع، المنتمين إلى أحزاب سياسية والمستقلين وغير المنتمين إلى أحزاب سياسية، بحقوق الانتخاب والترشيح على قدم المساواة. وإن التمييز بين المنتمين الى أحزاب والمستقلين يعد إهدارا كاملا للديمقراطية وسيادة الشعب، خاصة أن الأحزاب في مصر ليس لأي منها قواعد شعبية، وأن المستقلين يمثلون أكثر من 98% من المواطنين. ولم يعد خافيا على أحد أن التعديل المقترح للمادة 67 يرمي الى فتح ثغرة لتمكين بعض الأحزاب، التي لا وزن لها من مشاركة صورية تجميلية في الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد أن ظهر بوضوح أن النص الحالي للمادة 67 لا يسمح لغير مرشح واحد هو مرشح الحزب الوطني، صاحب الأغلبية في مجلسي الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية التي تملك وحدهما تحديد من يقبل ترشيحه لرياسة الجمهورية. وإزاء هذا الوضع الشاذ، كان لا بد من تدخل الرئيس حسني مبارك لطلب إعادة تعديل تلك المادة الفريدة في عالم التشريع الدستوري.
ولم يعد خافيا أيضا أن المقصود من إعادة تعديل المادة 67 هو مجرد إشراك بعض الأحزاب في ترشيح من تراه لانتخابات الرئاسة، وحرمان المستقلين من المشاركة، ومن دون إجراء اية تعديلات أخرى، ومع الابقاء على جميع صور العوار والخلل، التي شابت هذه المادة والتي من بينها كل ما يتعلق بلجنة الانتخابات الرئاسية، وما تتمتع به قرارتها من حصانة، وكذلك ما تضمنته تلك المادة من تقرير بدعة الرقابة القضائية السابقة. وهذا سوف يؤدي في النهاية إلى إجراء انتخابات صورية.
وحتى لو تخيلنا أن التعديل سوف يزيل كافة العورات والمآخذ، وأنه سوف يتضمن حرية الترشيح وسلامة إجراءات النتخاب، فإنه سيكون حبرا على ورق، ولن تتحقق أية حرية للترشيح، ولن تكون إجراءات الانتخاب سليمة، طالما لم يتحقق استقلال القضاء، وطالما بقيت السلطة التنفيذية تهيمن على شؤون القضاء.
* أستاذ القانون العام
كلية الحقوق ـ جامعة القاهرة